4 . عمارة العتيبة سبعينيات القرن الماضي

مهندس معماري غير معروف

من ذا الذي يودّ إمعان النظر في عمارة العتيبة، وهي تتربع أسفل مركز التجارة العالمي؟ ذلك المبنى الضخم ذو الـ59 طابقاً، والذي يهيمن على الأفق، ويطغى نوره على ذلك البناء النحيف. وفي الجهة الأخرى من عمارة العتيبة، يرنو مبنى سكني مرتفع آخر بشرفاته الزجاجية وأقواسه.

يعتبر الموقع مثيراً للاهتمام لأسباب أخرى، حيث يلاحَظ تدفّق مستمر لا يكلّ ولا يملّ من جموع الناس، تجتذبه تلك المحلات الصغيرة في الطابق السفلي. وتقبع هناك في الزاوية بقالة تبيع الطعام والشراب، ولوازم البيت، والعلكة، ولعلها ترمي إلى أن تجنّب قاصدي مركز التجارة العالمي الكثير من جولات التسوق غير الضرورية إلى محلات السوبرماركت البعيدة. ارفع بصرك وتفحّص واجهة المبنى لترى أنّ عمارة العتيبة بحقّ، تعدّ مثالاً حياً للعمارة الحديثة، فكل ما تحويه، يوحي بالتناغم والإنسجام، ابتداءّ من لون العمارة، وكذلك حجمها، ومساحتها، إلى الضوء المسلط عليها. ورغم أن التناسق العام لأجزاء العمارة يبدو متواضعاً، إلى أنه أنيق في مظهره، حيث تظهرالزوايا المستقيمة بشكل قوي على الواجهة التي تتخللها نوافذ مستطيلة، وأبواب، وشرفات، وجدران ساترة.

يشبه ملمس ولون الجدران شكل الرمال، حيث أن قشرة المبنى الخارجية تبدو ناعمة الملمس، ولكنها معقدة في قوامها. ومما يبهر الأنظار، وجود تلك الجدران الساترة على كل شرفة، بحوافها المجردة والسميكة التي تصنف المبنى عن غيره من المباني. والجدير بالذكر أنّ جدران الشرفات تأخذ لون النباتات والأشجار كونها مغطاة بالفسيفساء ذات اللونين الأخضر الفاتح والغامق. وتبدو القشرة الخارجية لعمارة العتيبة وكأنها صحراء تكسو في ثناياها واحة، حيث الشرفات محمية من الشمس ومفتوحة تستقبل عبق نسيم البحر.

هيا، دعونا الآن ننتقل إلى الجزء الخلفي من المبنى، حيث يحدث عادة، كل ما هو مثير للاهتمام، وتختفي البوابة المظلمة عن عيون المارة، مما يخلق الشعور بالألفة لقاطني المبنى. وبمجرد ما تجتاز عتبة المدخل، سيقابلك كرسي قديم مكسور، وإلى جواره يلتصق بلاط أسود على الجدران، وحجارة رمادية تفترش الأرض. عليك ألا تبالِ بالبيئة الباردة والعدائية بعض الشيء داخل المبنى وأن تتحرك قدمأً قاصداً المصعد، ولكن، كن على أهبة الإستعداد لأن الأبواب تغلق بسرعة. وبمجرد وصولك إلى الطابق المطلوب، عليك أن تحدّق ملياً بالأبواب الأنيقة، ذات الفراغات على هيئة معينات هندسية أنيقة الشكل.

كنت محظوظة بما فيه الكفاية، لألتقي في الطابق السفلي بالأشخاص المرشدين الذين اصطحبوني إلى المبنى، حيث رافقني اثنان من المهنيين الشباب كي يرياني المكان الذي يعيشان فيه، كما أنهما أعطياني نبذة مختصرة عن تاريخه. كانت شقتهما تتألف من ثلاث غرف نوم متواضعة جداً، ويقطنها تسعة من الشباب العُزاب، كما يتم تأجير الشقق بتكلفة منخفضة ولذلك كانت الصيانة رديئة وسيئة. وعلى الرغم من تلك الظروف، فرض جمال المبنى وجوده في المنطقة. وبينما كنت أمشي بإتجاه الشرفة وقع بصري في التو على الزينة التي أسرَت نظري من شدة جمالها.

من خلال الفراغات، تمكنت من رؤية شارع حمدان الصاخب، والذي كان يعجّ بوابل من السيارات، وأناس يتحركون في كل صوب وحدب، ومحال تجارية مكتظة ومرصوصة على طول الطريق، تُنذر بوصول نبض الحياة إلى الذروة القصوى. تعال إلى عمارة العتيبة، لتعاصر إلى حد ما، ما يشبه درباً من دروب الصبا الساحرة، عندما تسترق النظر عبر فتحة قفل الباب، وهناك يتجلى أمام مرأى من عينيك ما يجسد حياة أبوظبي المليئة بالإثارة والصخب.

أخبرني أحد الشباب المرشدين أن عمارة العتيبة هي أول مبنى في شارع حمدان فاق طوله أكثر من طابق واحد. وقال لي إن الشيخ زايد استغرب كون المبنى عالياً جداً. يا ترى! ما الذي كان سيقوله الشيخ زايد لو رأى برج خليفة ذو الـ 163 طابق؟! وماذا كان سيقول عن برجي المركز التجاري العالمي؟!

لم تكن عمارة العتيبة محاطة دائماً بناطحات السحاب والأبراج الزجاجية، بل كانت فيما مضى مبنى بهيجاً يكتنفها محيط يتسم باللطف وحسن الضيافة. ولقد كان ذلك الحي يعتبر أحد المناطق العادية في أبوظبي، حيث كان الناس يتجولون، ويتحادثون، ويمضون أوقاتهم معاً. وسرعان ما أخذت المنطقة شكلاً آخرعقب هدم السوق المركزي، حيث أن بناء كلا السوق المركزي الجديد، وبرجي مركز التجارة العالمي، لم يترك مكاناً لأحد لقضاء الوقت خارج البيت، أو اللهو، أو الدردشة مع الآخرين. وهنا يجدر القول بأنه إذا نجحت أبراج المكاتب في استقطاب المزيد من المهنيين إلى المنطقة، فمن الممكن أن تصبح عمارة العتيبة مُلتقى الناس ومكاناً للإستراحة مرة أخرى، حيث يتسنى للناس أن يتمتعوا بأخذ قسط من الراحة هناك، ويتسامروا فيما بينهم .

إذا تم تجديد وترميم ذلك المبنى، سيصبح حتماً لديه القدرة على استعادة عافيته وحيويته السابقة، كما لو كان ناقوساً يدق كي يذكّر ساكني أبوظبي بجذورهم، وانتمائهم إلى مكان متناغم، حيث أنه، ومنذ عهد قريب، استطاعت الهندسة المعمارية الحديثة أن تجعل التجربة اليومية أمراً أكثر سحراً وتألقاً.